تاريخ الأدب العربي - شوقي ضيف (7/ 484)

قوام هذه السيرة حروب مستمرة بين بنى هلال ومن دخل معهم من قبائل زغبة وسليم ورياح وعدي وربيعة والأثبج إلى إقليمي طرابلس وتونس وشمالي إفريقيا ومن كان بهذه الأقاليم من الصنهاجيين وزناتة وغيرهم من القبائل المغربية المستوطنة. وكانت القبائل العربية المذكورة قد حاربت مصر لعهد المعز أول الخلفاء الفاطميين سنة 360 تحت لواء الأعصم القرمطي. وكان قد استولى على دمشق والرملة ودخل مصر والتقى بالجيش الفاطمي في عين شمس بالقرب من القاهرة وكاد يكتب له النصر لولا خروج بعض قواده عليه وانضمام القبائل سالفة الذكر إلى الجيش المصري. وبذلك دارت عليه الدوائر فعاد إلى الشام ومنها إلى البحرين موطنه. وأسكن المعز تلك القبائل القيسية الصعيد، لعله يمكن الانتفاع بها في المستقبل. وحانت الفرصة لذلك في عهد الخليفة الفاطمي المستنصر (427 - 487 هـ‍) إذ خرج عليه المعز بن باديس الصنهاجي صاحب تونس والقيروان سنة 443 وأعلن العودة إلى المذهب المالكي السني وتبعيته للخليفة العباسي القائم بأمر الله، وانفصل بذلك الجناح الغربى للدولة الفاطمية ولم تقم للمذهب الشيعي الفاطمي قائمة في تلك الأنحاء منذ هذا التاريخ. واستشاط المستنصر غضبا، وأشار عليه وزيره اليازوري أن يسلط عليه القبائل القيسية النازلة بالصعيد منذ أيام جده المعز، فاتصل بشيوخهم ووعدهم أن تكون ديار طرابلس وتونس وكل ما تحت يد المعز إقطاعا لهم وأيضا كل ما يمتلكونه من بلاد المغرب وسرعان ما لبّته جموعهم، وخرجت إلى المغرب: إلى تونس وإفريقية، واستولت في سنة 443 على برقة بزعامة يحيى الرياحي وتملك بنوزغبة في سنة 446 طرابلس، واتجهت هلال ورياح والأثبج وعدي إلى إفريقيا وأضرموها نارا بقيادة زعيمهم مؤنس بن يحيى الرياحي وحاول المعز بن باديس أن يقربه منه مجزلا له العطايا ولم يغن ذلك عنه شيئا. ونازل تلك الجموع ودحرته وأنزلت به هزائم متوالية، مما اضطره أن يخلي لهم القيروان وأن يكتفى بالمهدية وبلدان صغيرة حولها.

واكتفى بها من بعده ابنه تميم الذى حكم بعده إلى نهاية القرن الخامس. وأخذت تتضعضع الإمارة بينما تحول إقليم تونس والجزائر إلى إقطاعيات صغيرة يحكمها هلاليون أو زناتيون إلى أن أعادت دولة الموحدين إلى شطر كبير من المغرب وحدته.

ويبدو أنه حين ارتضت هذه القبائل القيسية هجرتها إلى المغرب أرسلت إلى عشائرها في الجزيرة العربية أن تقدم عليها لتشاركها في هذه الهجرة الكبيرة وأن عشائر فعلا لبّت دعوتها، يدل على ذلك أننا نجد القاصّ للسيرة أو قصاصها استغلّوا فيها قصة فتاة جميلة من بني هلال هى الجازية بنت الحسن بن سرحان عشقها فتى من عشيرتها وأراد الزواج منها وتصادف أن أمير مكة شكر بن أبي الفتوح (430 - 453 هـ‍) رآها وأعجب بها، وطلب يدها من أبيها فآثره على عشيقها، وزوّجها منه. ثم حدث أن أغضب شكر عشيرتها، ورأوا الانتقام منه فاحتالوا عليه لأخذ الجازية وحرمانه منها، فادعوا أنهم يريدونها لزيارة أبويها في نجد، حتى إذا قدمت معهم مضوا مع أبيها في الرحلة إلى إفريقيا، وهناك زوّجوها من ابن عمها ولكن قلبها ظل معلقا بزوجها الأول حتى ماتت من شدة هيامها وحبها له. وهى قصة صحيحة في أصلها المتصل بشكر أمير مكة وزوجته الجازية، مما يدل على أن عشائر هلالية من الجزيرة قدمت على بني هلال بالصعيد أو بعد تركهم له مباشرة وواصلت بدورها الهجرة إلى المغرب.

والأساس في السيرة تاريخي صحيح وهو هجرة بني هلال ومن معهم من القبائل القيسية إلى المغرب واستيلاؤهم على بعض مدنه، غير أن الأحداث بعد ذلك تمضي وكأنها أضغاث أحلام لتلك الهجرة الكبيرة إذ سمّى القصاص بطلها أبا زيد الهلالي وسموا خصمه في قبيلة زناتة: الزناتي خليفة. وبذلك غابت عن السيرة قبيلة صنهاجة وأميرها المعز بن باديس الصنهاجي، كما غاب زعيم القبائل يحيى الرياحي وابنه مؤنس. وقد يرجع ذلك إلى أن القاص أو القصاص الذين وضعوها كانوا بمصر بعيدين عن ساحة الأحداث أو ساحاتها فبدت وقائعها وكأنها أخلاط أحلام، بما في ذلك اسم بطليها العربيين الخياليين: أبي زيد الهلالي ودياب بن غانم الزغبي.

وأغلب الظن أن ذلك يرجع إلى أنها تأخرت في وضعها طويلا عن زمن أحداثها ولذلك كنا نظن أنها ألفت في القرن السابع الهجري أو بعده في القرن الثامن وهي مكتوبة باللغة اليومية: شعرا ونثرا، وقد تعلق بها الشعب المصرى في ريفه وحضره، وعادة كان يلقيها على الناس منشد على ربابة في المقاهي والحفلات، يسمونه الشاعر.

وللسيرة ثلاث مراحل:

مرحلة الريادة إلى بلاد المغرب، وفيها يرود الطريق بطلها الخيالى أبو زيد الهلالى وأبناء أخته يحيى ومرعى ويونس وفى تونس يلقى بهم في غياهب السجون، ويستطيع أبو زيد الفرار من السجن ويستنفر القبيلة لتخليص أبنائها الثلاثة.

والمرحلة الثانية تسمى التغريبة وفيها تهاجر القبيلة إلى تونس وتمكنها سعدى ابنة ملكها الزناتي خليفة من دخولها وتفك القبيلة الأسرى الثلاثة. ويأخذ الحسن بن سرحان القيروان ودياب تونس وأبو زيد الأندلس ويستولون على قلاع كثيرة حتى يصلوا إلى أقصى المغرب.

والمرحلة الثالثة خاصة بأبناء الأبطال ويسمون الأيتام، وفيها يجمع زيدان بن أبى زيد الهلالي العرب من الشام والحجاز ويلتقى بهم في صعيد مصر ويرحل معهم إلى تونس ويشدد الحصار عليها وعلى أميرها دياب بن غانم الزغبي ويوافيه الهلالية من الأندلس ويفتحون جميعا المدينة ويقتلون دياب بن غانم. ويتنازل الهلالية عنها لابن الزناتي خليفة ويتأمّر على الهلالية ابن الحسن بن سرحان، ويعود زيدان الهلايى إلى صعيد مصر، كما يعود الهلالية الذين قدموا من الأندلس إليها.

وبذلك تنتهي السيرة، وهى تمتليء بانطباعات مصرية كثيرة.